( 2)
الفرق بين المعاصي والفتن
أن المعاصي وجهها بيِّن فمن يكذب يعرف أن الكذب مخالف للشريعة
لكن الفتنة كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم ( فإنِّي لَأَرَى الفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ القَطْرِ.)
فهذا كناية عن انتشارها كما انك لو أشرفت من مكان عال ترى أن المطر قد استوعب كل هذه المساحات المفتوحة .
مالم تغلق النفوس بالإيمان والتوكل على الله والعلم وصدق التعلق بالله جل وعلا بأن تكون الشريعة مهيمنة على الطبيعة
وهذا هو هدي السالفين رحمهم الله ولهذا لاترى الإمام أحمد لما كانت طبيعته شديدة كانت آرائه شديدة -كمايُدَّعى -
فقد ذكرنا الدرس السابق في المسح على الجوربين رخصه أحمد ومنعه الثلاثة
ففي مذهب أحمد من السعة مالاتجده في مذهب مالك وتجد في مذهب مالك من السعة مالاتجده في غيره
مع أن السعة ليس بالضرورة أن تكون هي الراجح
فلم تكن آرائهم مغلقة على وجه واحد ومايتوهم من قال بأن المذهب الحنفي هو المذهب السهل
والمذهب الحنبلي هو المذهب المتشدد -هذا لايقوله إلا من لايعرف من الفقه إلا اسمه -
ومن يعرف كتب الفقه وكتب الفقهاء لايقول مثل هذا الكلمة لإنه يستحي من ذكرها لإنها مناقضة للحقيقة .
وليس في المذاهب الفقهية مثل هذه الإطلاقات أصلاً .
إنما المقصود أن في مسألة الفتن يجب على أهل العلم -خاصة - أن يبينوا أمرها للناس ولاسيما في آخر الزمان فإنها تكثر ويكون أمرها شديداً
وكان الصحابة رضي الله عنهم يخشون أمرها حتى أن الفاروق رضي الله عنه يتتبع روايات الصحابة في هذا الباب وبتعوذ بالله من شرها .
وعثمان لما أدركه ماأدركه من أمر العامة اعتزل حتى قتل رضي الله عنه فهذه الفتن العامة وقد تكون خاصة لبعض الناس وهذه أسباب دفعها .
فلاينبغي لأهل العلم أن يقصرو في بيان أوجه الانفكاك عنها لعباد الله فإنها تموج موج البحر
وتسفك فيها الدماء أحياناً ويفتات فيها على الحقوق
وكما تعلم أن الشريعة جاءت بحفظ الضرورات الخمس التي يجب حفظها
وأعظمها مقاماً حفظ الدين الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم
وحفظ النفوس والدماء وحفظ الأعراض وحفظ الأموال وحفظ العقول .
فهذه الضرورات يجب أن تعصم وأن تحفظ حتى لاتدخلها مادة الفتنة .
وإلا فإن الفتنة فيها عماية كماقال الحسن ( الفتن إذا أقبلت لايعرفها إلا العلماء وإذا أدبرت عرفها العامة ) وهذه كلمة فقه
فالراسخ في العلم يعرفها وهي مقبلة والعامة يعرفونها بعد وقوعها .
لإن أسباب الخطأ في الفتن ليس أن الأمر دائر بين الحق والباطل -ولو كان الأمر كذلك ماصار من مادة الفتنة أو المشتبه بل من باب الطاعة والمعصية -
وجه الفتنة والاشتباه إذا كانت دائرة بين الأخذ بأهون الشرين اتقاء لأعلاهما فهذه الأمور فيها إغلاق -
فقد يقدر ماهو من الأعلى مع إمكان الأدنى وقد يقدر الأدنى مع إمكان الانفكاك عنهما - وهذا فقه يؤتيه الله من يشاء من عباده -
ولكن يجب أن يعلم بان الدين يجب حفظه والعناية به وكذلك الحقوق والضرورات الخمس يجب صونها والعناية بها مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بماتوجبه الشريعة في ذلك .
- وعدم التطفيف في القول فإن الله تعالى قال
( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
كل هذا في المال
فإذا كان هذا في المال مع أن المال ليس من الأمور التي جعلت الشريعة له المقام المطلق
فالمال لم يذم مطلقاً ولم يمدح مطلقاً
والمال فيه فتنة والفقراء يسبقون الأغنياء إلى غير ذلك
فمابالك إذا كان التطفيف في الدين إذا كان انتهاك هذا الحق ليس في المال فلم تبخسه ماله ولكن أن تبخسه ماهو من دينه بقول أو فعل ونحو ذلك .
فإذا كان هذا في المال وتجد قوة الآيات التي تزلزل القلوب
( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
ولمافي حديث خولة بنت حكيم في صحيح البخاري سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يقولُ: إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ.)
فإذا كان هذا في المال فكيف بمن يتخوض في الدين .
ولذلك يجب على أهل العلم وطلبة العلم والمسلمين بعامة أن يرعو حرمة هذا الدين وحرمة علم الشريعة وحسن القول فيه والتحقيق في الأمور والاتزان وتحقيق المعنى الذي جعله الله صفة لهذه الأمة
( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...)
وقوله ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)
أن لايصير العلم بغياً
فجماع الشر في باب الفتن من جهتها العلمية إذا تعدي بالعلم على غير الوجه الذي أنزله الله كما ذكره الله في كتابه وهي :
1) القول على الله بغير علم فيجب على طالب العلم الحذر من ذلك .
2) كتمان العلم وهذا في الحقيقة يرجع إلى الأول .
وأنت ترى الأئمة رحمهم الله يتوقفون في أمر كثير من فروع الشريعة وجزئياتها
فمابالك بكليها وعمومها والأحكام التي فيها عموم والتي كان من هدي الصحابة فيها على الشورى .
-فلايتقحمون فيها القول تقحماً -
3) لبس الحق بالباطل وهذا من أعظم أسباب الفتن ومن هدي الأئمة المضلين ومن أخلاق اليهود ونهى الله عباده عن ذلك
( وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )
4) اتخاذ العلم بغياً فيتحول العلم إلى صفة لعقوبة الناس بغير ماشرع الله تعالى كالطعن في أحوالهم وغير ذلك كما في قول اليهود والنصارى ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )
فجماع الشر عدم رعاية علم الشريعة وهي أخلاق أمم انحرفت عما أنزل الله لها من الهدى والنور
فصار ذلك موجباً لغضب الله لعنته وغير ذلك
كماقال تعالى
( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ )
فهذه جملة مماجاء في حديث حذيفة رضي الله عنه فنسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن ماظهر منها ومابطن
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .