البرهان 100
من سورة الأعراف
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
{ 59 }
لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة،
أيد ذلك بذكر ما جرى للأنبياء الداعين إلى توحيده
مع أممهم المنكرين لذلك،
وكيف أيد اللّه أهل التوحيد،
وأهلك من عاندهم ولم يَنْقَدْ لهم،
وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد ومعتقد واحد،
فقال عن نوح - أول المرسلين -:
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ }
يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، حين كانوا يعبدون الأوثان
{ فَقَالَ } لهم: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } أي: وحده
{ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }
لأنه الخالق الرازق المدبِّر لجميع الأمور،
وما سواه مخلوق مدبَّر، ليس له من الأمر شيء،
ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب اللّه، فقال:
{ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام وشفقته عليهم،
حيث خاف عليهم العذاب الأبدي، والشقاء السرمدي،
كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق
أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم،
فلما قال لهم هذه المقالة، ردوا عليه أقبح رد.
{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ } أي: الرؤساء الأغنياء المتبوعون
الذين قد جرت العادة باستكبارهم على الحق، وعدم انقيادهم للرسل،
{ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
فلم يكفهم - قبحهم اللّه - أنهم لم ينقادوا له،
بل استكبروا عن الانقياد له، وقدحوا فيه أعظم قدح،
ونسبوه إلى الضلال،
ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالا مبينا واضحا لكل أحد.
وهذا من أعظم أنواع المكابرة،
التي لا تروج على أضعف الناس عقلا،
وإنما هذا الوصف منطبق على قوم نوح،
الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها ونحتوها بأيديهم،
من الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر،
ولا تغني عنهم شيئا،
فنـزلوها منـزلة فاطر السماوات،
وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع القربات،
فلولا أن لهم أذهانا تقوم بها حجة اللّه عليهم
لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم،
بل هم أهدى منهم وأعقل