![]() |
الحديث الخامس عن سفيان بن عبد الله الثَّقفي قال: قلت "يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم" رواه مسلم. فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً جامعاً للخير نافعاً، موصلاً صاحبه إلى الفلاح. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله الذي يشمل ما يجب اعتقادُه: من عقائد الإيمان، وأصوله، وما يتبع ذلك: من أعمال القلوب، والانقياد والاستسلام لله،باطناً وظاهراً، ثم الدوام على ذلك، والاستقامة عليه إلى الممات. وهو نظير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[1]. فرتب على الإيمان والاستقامة: السلامة من جميع الشرور، وحصول الجنة وجميع المحاب. وقد دلت نصوص الكتاب والسنة الكثيرة على أن الإيمان يشمل ما في القلوب من العقائد الصحيحة، وأعمال القلوب: من الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، وإرادة الخير، وكراهة الشر. ومن أعمال الجوارح [2]. ولا يتم ذلك إلا بالثبات عليه. ******************* [1] سورة فصلت – آية 30. [2] الأعضاء. |
الحديث السادس عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" متفق عليه. وزاد الترمذي والنسائي: "والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم" وزاد البيهقي: "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله". ذكر في هذا الحديث كمال هذه الأسماء الجليلة، التي رتب الله ورسوله عليها سعادة الدنيا والآخرة. وهي الإسلام والإيمان، والهجرة والجهاد. وذكر حدودها بكلام جامع شامل، وأن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. وذلك أن الإسلام الحقيقي: هو الاستلام لله، وتكميل عبوديته والقيام بحقوقه، وحقوق المسلمين. ولا يتم الإسلام حتى يحب للمسلمين ما يحب لنفسه. ولا يتحقق ذلك إلا بسلامتهم من شر لسانه وشر يده. فإن هذا أصل هذا الفرض الذي عليه للمسلمين. فمن لم يسلم المسلمون من لسانه أو يده كيف يكون قائماً بالفرض الذي عليه لإخوانه المسلمين؟ فسلامتهم من شره القولي والفعلي عنوان على كمال إسلامه. |
وفسر المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم؛ فإن الإيمان إذا دار في القلب وامتلأ به، أوجب لصاحبه القيام بحقوق الإيمان التي من أهمها: رعاية الأمانات، والصدق في المعاملات، والورع عن ظلم الناس في دمائهم وأموالهم. ومن كان كذلك عرف الناس هذا منه، وأمنوه على دمائهم وأموالهم. ووثقوا به، لما يعلمون منه من مراعاة الأمانات، فإن رعاية الأمانة من أخص واجبات الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم : "لا إيمان لمن لا أمانة له". وفسر صلى الله عليه وسلم الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجرة الذنوب والمعاصي. وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله؛ فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات، والإقدام على المعاصي. والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام، والسنة جزء من هذه الهجرة، وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة. |
وفسر المجاهد بأنه الذي جاهد نفسه على طاعة الله؛ فإن النفس مَيَّالة إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء، سريعة التأثر عند المصائب، وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله، وثباتها عليها، ومجاهدتها عن معاصي الله، وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب. وهذه هي الطاعات: امتثال المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور. فالمجاهد حقيقة: من جاهدها على هذه الأمور؛ لتقوم بواجبها ووظيفتها. ومن أشرف هذا النوع وأجلِّه : مجاهدتُها على قتال الأعداء، ومجاهدتهم بالقول والفعل؛ فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين. فهذا الحديث من قام بما دلّ عليه فقد قام بالدين كله: "من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، وهجر ما نهى الله عنه، وجاهد نفسه على طاعة الله"، فإنه لم يبق من الخير الديني والدنيوي الظاهري والباطني شيئاً إلا فعله، ولا من الشر شيئاً إلا تركه. والله الموفق وحده. |
الحديث السابع عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً. ومن كانت فيه خَصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدَّث كَذَب، وإذا عاهد غدَر، وإذا خاصم فَجَر"[1] متفق عليه. النفاق أساس الشر. وهو أن يظهر الخير، ويبطن الشر. هذا الحدُّ يدخل فيه النفاق الأكبر الاعتقادي، الذي يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر. وهذا النوع مُخرج من الدين بالكلية، وصاحبه في الدَّرْك الأسفل من النار. وقد وصف الله هؤلاء المنافقين بصفات الشر كلها: من الكفر، وعدم الإيمان، والاستهزاء بالدين وأهله، والسخرية منهم، والميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عداوة دين الإسلام. وهم موجودون في كل زمان، ولا سيما في هذا الزمان الذي طغت فيه المادية والإلحاد والإباحية. ******************* [1] زاد في الخصومة على حد الشرع فلم يكتف بمقابلة السيئة بمثلها على سبيل المثال. |
والمقصود هنا: القسم الثاني من النفاق الذي ذكر في هذا الحديث فهذا النفاق العملي – وإن كان لا يخرج من الدين بالكلية – فإن دهليز الكفر، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع فقد اجتمع فيه الشر ، وخلصت فيه نعوت المنافقين ، فإن الصدق، والقيام بالأمانات، والوفاء بالعهود، والورع عن حقوق الخلق هي جماع الخير، ومن أخص أوصاف المؤمنين. فمن فقد واحدة منها فقد هدم فرضاً من فروض الإسلام والإيمان، فكيف بجميعها ؟. |
فالكذب في الحديث يشمل الحديث عن الله والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من كذب عليه متعمداً فليتبوأ مقعده من النار {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [1] يشمل الحديث عما يخبر به من الوقائع الكلية والجزئية. فمن كان هذا شأنه فقد شارك المنافقين في أخص صفاتهم، وهي الكذب الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار. ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " ومن كان إذا ائتمن على الأموال والحقوق والأسرار خانها، ولم يقم بأمانته، فأين إيمانه ؟ وأين حقيقة إسلامه ؟ وكذلك من ينكث العهود التي بينه وبين الله، والعهود التي بينه وبين الخلق متصف بصفة خبيثة من صفات المنافقين. وكذلك من لا يتورع عن أموال الخلق وحقوقهم، ويغتنم فرصها، ويخاصم فيها بالباطل ليثبت باطلاً، أو يدفع حقاً. فهذه الصفات لا تكاد تجتمع في شخص ومعه من الإيمان ما يجزي أو يكفي، فإنها تنافي الإيمان أشد المنافاة. ******************* [1] سورة الصف – آية 7. |
واعلم أن من أصول أهل السنة والجماعة: أنه قد يجتمع في العبد خصال خير وخصال شر، وخصال إيمان وخصال كفر أو نفاق. ويستحق من الثواب والعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك وقد دلّ على هذا الأصل نصوص كثيرة من الكتاب والسنة. فيجب العمل بكل النصوص، وتصديقها كلها. وعلينا أن نتبرأ من مذهب الخوارج الذين يدفعون ما جاءت به النصوص: من بقاء الإيمان وبقاء الدين، ولو فعل الإنسان من المعاصي ما فعل، إذا لم يفعل شيئاً من المنكرات التي تخرج صاحبها من الإيمان. فالخوارج يدفعون ذلك كله، ويرون من فعل شيئاً من الكبائر ومن خصال الكفر أو خصال النفاق خارجاً من الدين، مخلداً في النار. وهذا مذهب باطل بالكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. |
جهد مبارك أيها المبارك
جزاكم الله خيرا ونفع بكم |
بارك الله فيكم وأحسن إليكم |
الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله، وَلْيَنْتَهِ" . وفي لفظ "فليقل: آمنت بالله ورسله" متفق عليه. وفي لفظ "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولون: من خلق الله؟". احتوى هذا الحديث على أنه لا بد أن يلقي الشيطان هذا الإيراد الباطل: إما وسوسة محضة، أو على لسان شياطين الإنس وملاحدتهم. وقد وقع كما أخبر، فإن الأمرين وقعا، لا يزال الشيطان يدفع إلى قلوب من ليست لهم بصيرة هذا السؤال الباطل، ولا يزال أهل الإلحاد يلقون هذه الشبهة التي هي أبطل الشبه، ويتكلمون عن العلل وعن مواد العلم بكلام سخيف معروف. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم إلى دفع هذا السؤال بأمور ثلاثة: بالانتهاء، والتعوذ من الشيطان، وبالإيمان. |
أما الانتهاء – وهو الأمر الأول -: فإن الله تعالى جعل للأفكار والعقول حداً تنتهي إليه، ولا تتجاوزه. ويستحيل لو حاولت مجاوزته أن تستطيع، لأنه محال، ومحاولة المحال من الباطل والسفه، ومن أمحل المحال التسلسل في المؤثرين والفاعلين. فإن المخلوقات لها ابتداء، ولها انتهاء. وقد تتسلسل في كثير من أمورها حتى تنتهي إلى الله الذي أوجدها وأوجد ما فيها من الصفات والمواد والعناصر { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهَى }[1] فإذا وصلت العقول إلى الله تعالى وقفت وانتهت، فإنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء. فأوّليته تعالى لا مبتدأ لها مهما فُرضت الأزمان والأحوال. وهو الذي أوجد الأزمان والأحوال والعقول التي هي بعض قوى الإنسان. فكيف يحاول العقل أن يتشبث في إيراد هذا السؤال الباطل. فالفرض عليه المحتم في هذه الحال: الوقوف ، والانتهاء . ******************* [1] سورة النجم – آية 42. |
الأمر الثاني: التعوذ بالله من الشيطان. فإن هذا من وساوسه وإلقائه في القلوب؛ ليشكك الناس في الإيمان بربهم. فعلى العبد إذا وجد ذلك: أن يستعيذ بالله منه، فمن تعوذ بالله بصدق وقوة أعاذه الله وطرد عنه الشيطان، واضمحلت وساوسه الباطلة. الأمر الثالث: أن يدفعه بما يضاده من الإيمان بالله ورسله، فإن الله ورسله أخبروا بأنه تعالى الأول الذي ليس قبله شيء، وأنه تعالى المتفرد بالوحدانية، وبالخلق والإيجاد للموجودات السابقة واللاحقة. فهذا الإيمان الصحيح الصادق اليقيني يدفع جميع ما يضاده من الشبه المنافية له، فإن الحق يدفع الباطل. والشكوك لا تعارض اليقين. |
فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم تبطل هذه الشبه التي لا تزال على ألسنة الملاحدة، يلقونها بعبارات متنوعة. فأمر بالانتهاء الذي يبطل التسلسل الباطل، وبالتعوذ من الشيطان الذي هو الملقي لهذه الشبهة، وبالإيمان الصحيح الذي يدفع كل ما يضاده من الباطل. والحمد لله فبالانتهاء: قطع الشر مباشرة. وبالاستعاذة: قطع السبب الداعي إلى الشر. وبالإيمان اللجأ والاعتصام بالاعتقاد الصحيح اليقيني الذي يدفع كل معارض. |
وهذه الأمور الثلاثة هي جماع الأسباب الدافعة لكل شبهة تعارض الإيمان. فينبغي العناية بها في كل ما عرض للإيمان من شبهة واشتباه يدفعه العبد مباشرة بالبراهين الدالة على إبطاله، وبإثبات ضده وهو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، وبالتعوذ بالله من الشيطان الذي يدفع إلى القلوب فتن الشبهات، وفتن الشهوات، ليزلزل إيمانهم، ويوقعهم بأنواع المعاصي. فبالصبر واليقين: ينال العبد السلامة من فتن الشهوات، ومن فتن الشبهات. والله هو الموفق الحافظ. |
الساعة الآن 07:57 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir