ولما سكت أي خطب الأنصار أردت أن أتكلم وقد زورت (هيأت وحسنت) في نفسي مقالة أعجبتني. فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر؛ فكرهت أن أغضبه، وهو كان أعلم مني وأوقر فوالله ما ترك كلمة أعجبتني من تزويري الا قالها في بديهته، أو مثلها أو أفضل حتى سكت، ومما قال : «أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم به أهل» واشاد بهم وبما قدموا لدينهم ولإخوانهم المهاجرين، وذكر من فضائلهم ومآثرهم مالم يذكره خطباؤهم، ثم بدأ في إخراج الأمر من الاطار الذي وضعه خطيب الأنصار فيه، فالأمر ليس قاصرا على المدين وحدها فالجزيرة العربية اليوم كلها تستظل بظل الإسلام، وإذا كان المجاهرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلموا لإخوانهم الأنصار بالخلاف، ويعرفوا لهم فضلهم، فإن بقية العرب لن تسلم لغير قريش، وما لم تتوحد الكلمة فلن يكتب لرسالة الإسلام تجاوز الحدود والانتشار خارج الجزيرة، إذن فمصلحة الدعوة تقتضي أن يكون الخليفة من قريش لتستمر الرسالة، وتتحد الكلمة، وتجتمع القلوب، ويستمر المد الإسلامي، ثم خيرهم بين أحد قرشيين لا يماري أحد في فضل أي منهما: عمر وأبي عبيدة، ونزع نفسه من الأمر. يقول سيدنا عمر: «ولم أكره شيئا مما قاله غيرها أي: غير ترشيحه لعمر وأبي عبيدة وكان والله ان أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر...». ثم قام من الأنصار خطيب آخر يريد ان يرجع الأمر إلى الإطار الأول الذي وضعه خطيبهم الأول فيه.. فقال: «... منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش» قال عمر: «فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف»(29) فقلت: «ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار»(30) وقد كاد سعد بن عبادة مرشح الأنصار أن يقتل في الزحام «فقد تدافع الناس لمبايعة أبي بكر حتى كادوا يقتلون سعدا دون أن ينتبهوا له»(31). وهكذا استطاع الصحابة رضوان الله عليهم حسم هذا الخلاف دون أن تبقى في النفوس رواب الإحن، وتوحدت كلمة المسلمين للمضي برسالة الحق الى حيث شاء الله لها أن تنتشر. 4 اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة: كان هذا الأمر رابع الأمور الخطيرة التي اختلف فيها الصحابة، واستطاعوا التغلب عليها بما تحلّوا به من صدق النية الى جانب أدب الاختلاف؛ فبعد أن بويع أبو بكر بالخلافة بعد رسول الله ارتدت بعض القبائل حديثة العهد بالإسلام عنه، وتابع بعض من كان ادّعى النبوة، مثل: مسيلمة الكذاب وغيره، كما امتنعت بعض القبائل عن اداء الصلاة والزكاة، وامتنعت بعض القبائل عن اداء الزكاة فقط، وكان سبب امتناع بعضهم عن أداء الزكاة أنفة واستكبارا أن يدفعوا لأبي بكر ، وسوّل الشيطان لبعضهم بتأويل فاسد، حيث زعموا أنها، في أصل الشريعة، لا تدفع لغير رسول الله ، لأنه هو المخاطب بأخذها، ومجازاتها عليها بالتطهير والتزكية، والدعاء لهم في قول الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم)(التوبة: 103) ونسي المانعون للزكاة أو تناسوا أن هذا الخطاب لم يكن مقصورا على الرسول ، بل يتناول من يلي الأمر بعده عليه الصلاة والسلام لأنه خطاب له بصفته حاكما وإماما للمسلمين؛ فإن أخذ الزكاة من أهلها وتسليمها لمستحقيها من الأمور الداخلة ضمن تنظيم المجتمع وإدارته كإقامة الحدود ونحوها، تنتقل مسؤوليتها الى القائمين بأمر المسلمين بعد رسول الله نيابة عن الأمر. كما أن كل مسلم كان يبايع رسول الله فيما يبايعه على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، مما لا يترك مسوّغا للتفريق بينهما، وحرصا من الخليفة الأول على استمرار مسيرة الإسلام يقرر ابو وبكر الصديق قتلاهم لحملهم على التوبة وأداء الزكاة، والعودة إلى حظيرة الإسلام، والالتزام بكل ما بايعوا عليه رسول الله (32)، وإزاء الموقف الذي اتخذه الخليفة الأول يقع الخلاف بينه وبين عمر ا الذي تراءى له للوهلة الأولى عدم جواز مقاتلة مانعي الزكاة. يقول أبو هريرة : «لما توفي رسول الله وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: فكيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : «أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله تعالى»؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلاّ أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق»(33). يتبع