يقول ابن اسحاق: «ولما قبض رسول الله انحاز هذا الحي من الانصار الى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة واعتزل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين الى أبي بكر وانحاز معهم اسيد بن حضير في بني عبدالاشهل»(28) واوشكت فتنة كبرى ان تقع ولو وقعت لما كان ذلك بالامر المستغرب كثيرا فالفراغ الذي تتركه شخصية عظمى من رسول الله في امة كان لها النبي والقائد لا يمكن ان يملأ بسهولة ولاسيما ان فيهم رجالا، مثل : عمر كان قد وقر في أذهانهم استحالة موته في تلك الظروف فكل فرد في الامة كان يحبه عليه الصلاة والسلام اكثر مما يحب نفسه التي بين جنبيه وهم الذين كانوا يبتدرون قطرات وضوئه عليه الصلاة والسلام قبل ان تسقط على الارض فلا تكاد تسقط الا في يد احدهم وما من امة على الارض احبت نبيها وقائدها محبة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله فكان كان احدهم لا يستطيع ان يملأ عينيه من النظر اليه من حبهم له وهيبته التي ملأت قلوبهم وجوانحهم رغم تواضعه الشديد وان وقع الصدمة بوفاته عليه الصلاة والسلام كان حريا بأن يفقد الكثيرين منهم صوابهم بل وقد فعل ولا غرو في ذلك فقد كان الرسول اليد الحانية التي حملت اليهم عز الدنيا وسعادة الآخرة. ومع ذلك فقد تعالوا على مض الحزن وألم الفراق، وتلوا قوله الله تعالى ومامحمد الا رسول قد خلت من قبله الرسول أفإن مات او قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)«آل عمران 144» ثم توجهوا لاحتواء الامر وحفظ الرسالة الخالدة، والحيلولة دون أسباب الفتنة. صحيح أن هناك زعامة واقعية كانت لأبي بكر لم لعمر ا، ولم يكن من المسلمين من تنقطع الاعناق اليه مثل أبي بكر وعمر ا فأبو بكر كان وزير الرسول وصاحبه ورفيق هجرته ووالد زوجته الاثيرة لديه وهو الذي لم يكن يفارقه في أي امر مهم. وعمر هو من هو؟ فقد كان في اسلامه عزة للمسلمين وفي هجرته ارغام لانوف المشركين وفي رأيه تأييد من رب العالمين … وكثيرا ما ورد «… جاء رسول الله ومعه ابو بكر وعمر» و«ذهب رسول الله ومعه أبو بكر وعمر» و«غزا رسول الله ومعه أبو بكر وعمر» … وهذا كله قد يخفف من الكارثة التي زلزلت الاقدام والقلوب بيد أن الاحساس بالفراغ في مثل هذه المواقف قد يتجاوز الفضائل والمناقب، ويؤدي الى ارتباك ليس من السهل احتواؤه والسيطرة عليه وهنا فان الرجال الذين تربوا في ظلال النبوة قد حكمتهم آدابها في سائر الاحوال … حال الاتفاق وحال الاختلاف .. وفي كل شأن من شؤون الحياة هذه الداب كانت كفيلة بدء سائر الاخطار المحتملة، والحفاظ على الرسالة، وحماية وحدة الامة وتسيير الامور بشكل مماثل لما كانت تسير عليه في عهد رسول الله يقول الرواة « أتى آت الى أبي بكر وعمر فقال : ان هذا الحي من الانصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا اليه فان كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل ان يتفاقم امرهم». جاء هذا الخبر الى الشيخين ورسول الله لم يجهز ولم يدفن بعد قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا الى اخواننا هؤلاء من الانصار حتى ننظر ما هم عليه. ولندع سيدنا عمر يروي بقية ما حدث، حيث قال : ... ان الانصار خالفونا واجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة فاطلقنا نؤمهم، حتى لقينا منهم رجلان صالحها فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم وقال : أين تريدون يا معشر المهاجرين. قلنا : نريد اخواننا هؤلاء من الانصار قالا: فلا عليكم الا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا امركم. قال : قلت : والله لنأتينهم فانطلقنا حتى اتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فاذا بين ظهرانينا رجل مزمل فقلت: من هذا الرجل ؟ فقالوا : سعد بن عبادة، فقلت ماله؟ فقالوا: وجع فلما جلسنا نشهد خطيبهم ... ثم ذكر مآثر الانصار وفضائلهم، وما يدل على أنهم أولى بخلافة رسول الله من غيرهم. وهنا لابد من وقفة فالانصار اهل البل وهم فيها الغالبية المطلقة كما يقال اليوم وهم الذين آووا ونصروا وتبوؤوا الدار والايمان وفتحوا للاسلام قلوبهم قبل بيوتهم وليس هناك مهاجر واحد الا ولأخ له من الانصار عليه فضل كبير ولو كان في أمر الخلافة نص قاطع من كتاب الله او سنة رسوله عليه الصلاة والسلام لانتهى الامر بذكره والاحتكام اليه وارتفع الخلاف ولكن ليس هناك شيء من ذلك فلم يبق الا التحلي بكل خصال الحكمة والحنكة، وأدب الاختلاف والحوار العقلاني الهادئ القائم على إثارة أنبل المشاعر وافضلها لدى كل من الطرفين، لتجاوز العقبة، واحتواء الأزمة، والخروج منها، وذلك ما كان يقول سيدنا عمر. يتبع